الجمعة، 14 يونيو 2013

المدخل للعمارة المصرية القديمة

العمارة المصرية
ما تكاد تبدو صورة هرم أو مسلة أو صرح يتوجه كورنيش منحن إلا ونتذكر مصر ، ولا يكاد اسم مصر يطرق الأسماع إلا وترتسم في المخيلة صور معابدها العظيمة ومسلاتها الشاهقة وأهراماتها الضخمة ومقابرها الفخمة حتى ليكاد كل منها يكون علما عليها ، مما يشهد بما كان لها جميعا من عظيم شأن وبالغ أهمية في الضارة المصري .
وقد كانت المعابد و المقابر المصرية تثير أعجاب كل من شاهدها ، وها نحن لا نزال نجد فيما بقى مما أنشأه المصريون من عمائر وما أقاموه من صروح ومسلات وأساطين من الجلال والروعة ما يملأ النفس إعجابا بها وتقديرا لمن أقاموها . وقد قال عنهم شمبليون : ما من شعب قديم أو حديث تصور فن العمارة على نحو فخم وعظيم وجليل كالمصريين القدماء . لقد كانوا يتخيلون وكأنهم أناس طولهم مائة قدم ، وان الخيال في أوروبا الذي يحلق فوق بواباتنا ليقف خائرا عند أقدام الأساطين المائة والأربعين في بهو الكرنك .
وفي الحق ليس من شعوب العالم من أكثر البناء ، وتحكم في كميات هائلة وضخمة من الأحجار ، ومن بلغ السعة والضخامة في البناء كالمصريين . ولا يقتصر الأمر على الضخامة والكم فحسب ، وإنما تدل العمارة المصرية أيضا على شعور دقيق بالأشكال المعمارية ، وهو ما يتجلى بصفة خاصة في الأساطين على شكل النخيل والبردي . وإذا كنا نعجب الآن بما شيدوا من عمائر ، نجد فيها صورا مختلفة من الجمال ، فما من ريب في أن أثرها على المصريين قد كان اقوي بكثير يوم كانت تؤدي فيها الشعائر والمناسك ، ويملأ أجواءها عبير البخور .
على أن ما حفظ من عمائر المصريين ضئيل جدا بالنسبة لما اندثر منها ، ذلك لان من المنشآت ما كان من مواد ضعيفة لم تستطع مغالبة عوادي الزمن فغدت أطلالا دارسة ، ومن الأساطين والجواسق ما كان من خشب لم يبق الزمن منه على شيء . ومنها ما هدم لإقامة بناء آخر مكانه أو لاستخدام أحجاره في مبنى جديد . وفي العصور المظلمة من تاريخ مصر تعرضت المعابد والمقابر لكثير من الاعتداءات ، ونهبت ذخائرها ، وخرب منها عدد غير قليل .
وكانت المباني المنشأة من حجر الجير أكثر من غيرها تعرضا للدمار ، إذ كانت الأحجار تقتلع منها ليبنى بها من جديد أو ليصنع منها أفضل أنواع الكلس .ولا ننسى اثر النيل في تدمير بعض المباني عند الفيضانات وأيضا هناك اثر كبير للحروب والثورات والظروف الطبيعية كالزلازل في تدمير بعض المباني .
لهذا كله ليس من الغريب أن يزيد ما بقى من مقابر المصريين كثيرا على ما حفظ من قصورهم وبيوتهم ومعابدهم ، ذلك لان المقابر إنما كانت تبنى على حافة الصحراء أو تنحت في الصخر ، أما البيوت والمعابد فكانت غالبا في المدن حيث تعرضت للتغير والهدم خلال العصور الماضية .
ومع ذلك فان ما بقى من عمائر المصريين كثير لا يمكن حصره . وكان المصريون من اشد الأمم تمسكا بعاداتهم وتقاليدهم ، ومن شأن العقائد الدينية و الجنازية التمسك بصيغها وما ورثته من طرز وأشكال . لذلك تحتفظ المعابد والمقابر المصرية في عصورها المختلفة بكثير من أشكالها الأولى ، وفيها يتجلى أثر العوامل المختلفة وما صاحب نشأة البناء من صفات وخصائص بما أضفى على العمارة المصرية في كافة عصورها طابعا عاما يميزها عن عمارة سائر الأمم والشعوب . بيد أن ذلك لم يمنع من أن تتراءى فيها روح كل عصر ، وتتردد فيها أصداء كل تقدم ، ويتجلى فيها تطور نبوغ المصريين في فن البناء ، ثم أنها لتنم عما لابسها من ظروف سياسية واقتصادية ، وهي بذلك سجل حافل معرفة تطور أحوال مصر خلال قرون .
وبينما كان المصريون يبنون بيوتهم وقصورهم من اللبن ، فقد عنوا كثيرا بمعابد الآلهة ومقابر الموتى ، يختارون لها أفضل المواد وأقواها مهما كلفهم ذلك من جهد ومشقة . وكانوا يعلون في بنائها ويزيدون فيها ، أو ينحتونها في الصخر الأصم لتكون بيوتا خالدة على الزمن ، جديرة بالآلهة والموتى الأبرار ، لذلك كان للعمائر الدينية والجنازية اكبر الشأن في العمارة المصرية . وكانت منذ الدولة القديمة على الأقل على أوثق صلة بفنون النحت والنقش والتصوير ، لذلك كان يلاحظ عدم خلو أي معبد أو مقبرة من التماثيل والرسومات المنحوتة ولا يمكن تقبل أي معبد أو معلم بدون التماثيل والفنون الزخرفية .
وقد جبل المصريون منذ عصور ما قبل الأسرات على زخرفة أوانيهم وأدواتهم وأسلحتهم وما صنعوا من أثاث وتوابيت ، وان كان ذلك في اعتدال واتزان ، إلا انه اقتضى عملا وجهدا يزيد على ما كانت تقتضيه الأغراض العملية ، وقد رفع ذلك من قيمة ما انشئوا وأضفى عليه طابعا فنيا جميلا . كذلك لم يشأ المصريون أن يتركوا ما في الجدران والسقوف في المعابد والمقابر من مساحات شاسعة عاطلة فزينوها بالصور والنقوش وبعض العناصر الزخرفية مما يتفق وأغراضهم الدينية والجنازية ، ويرضى مشاعرهم الفنية أيضا ، إذ ليس بخفي ما يتجلى في دقة التصوير وحسن تأليف الصور والزخارف واتساق الألوان من قيمة زخرفيه . وفضلا عن ذلك فان النقوش لتتسق وطراز البناء أتم اتساق وذلك بقلة بروزها أو ضالة غورها مما يدل على ما كان يجمع بينهما من صلة .
وكانت نقوش معبدي هرم ساحورع والطريق الصاعد تشغل نحوا من عشرة آلاف متر مربع ، وليس بعد هذا دليل على ما كان بين النقش والعمارة المصرية من علاقة وطيدة وعلى أهميته لها ، وإلا فكيف كانت تبدو المسطحات الشاسعة بغير نقوشها الملونة التي تحليها ، وكيف تكون مثلا مقبرة مرروكا ذات القاعات ألاثنتي والثلاثين ، أو قبر سيتي الأول بدهاليزه وقاعاته المحفورة في الصخر ، أو بهو الأساطين في معبد الكرنك ، أو قاعة العمد الكبرى في معبد أبو سنبل العظيم إذا خلت جدران كل من نقوشها .
ويزيد في تبيان العلاقة بين النقوش والعمارة أن المصريين وان كانوا قد بدؤوا منذ وقت مبكر يكتبون على البردى بخط هيراطيقي ثم بعد ذلك بخط ديموطيقي ، فإنهم ظلوا يحتفظون على مدى تاريخهم الطويل بالخط الهيروغليقي يسجلون به في الحجر ما شاءوا من نصوص دينية ودعوات وأخبار وما يصاحب الصور والناظر من عبارات . والخط الهيرغليقي زخرف جميل ، علاماته شخوص وأشكال ، كان الفنان يعنى برسمها وتنظيمها وتلوينها بما يتسق وما يحلى الجدران من مناظر حتى ليعتبر أجمل خط خطته يد الإنسان .
يضاف إلى هذا كله أن المصريين كانوا يعتقدون أن في التمثال والصورة ما يفيد صاحبهما في الآخرة ، وانه يضار إذا تعرضا للتلف ، وان روحه تنعم بما يصور لها من شعائر ومناظر على الجدران وما يقدم لتمثاله وصورته من قربان ويتلى أمامهما من دعاء . لذلك أكثروا من إقامة التماثيل في المعابد والمقابر ، وحلوا جدرانها بالنقوش والصور فلا يكاد يخلو منها جدار .
نخلص من هذا إلى انه كان يستحيل من وجهة النظر المصرية أن تستغني العمارة الدينية والجنازية عن النحت والنقش والتصوير ، وان التماثيل والنقوش والصور كانت جزءا من المعابد والمقابر بحيث لا يجوز إغفالها إذا أريد تقدير العمارة المصري على أساس سليم وقصد إلى الاستماع بها على نحو صحيح .
هذه الصلة الوثيقة بين الفنون المختلفة هي أساس ما يجمع بينها جميعا في كافة أزمنة التاريخ المصري القديم من صفات مشتركة ، تؤلف بينها وحدة متكاملة في اتساق فني جميل . وليس أدل على ذلك من انه لو أقيمت بعض تماثيل الأسرة الرابعة في مباني زوسر لبنا كل منهما على الآخر ولما كان بينهما ما يجمع عمارة زوسر وتماثيله من اتساق وتوافق . ولو حليت بعض مباني الأسرة الرابعة بنقوش من طراز نقوش الأسرة الثالثة أو الخامسة لفقدت عمارة الأسرة الرابعة كثيرا من جلالها وعظمتها ، وضاعت فخامتها وروعتها . ولو أقيمت في معبد الوادي للملك خفرع تماثيل من طراز تمثال زوسر أو على غرار تماثيل الأسرة الخامسة لما كان بينهما ما كان بين تماثيل ذلك المعبد وعمارته من تناسق و وحدة فنية .
وعلى هذا النحو لو حليت جدران معبد الدير البحري بنقوش من طراز نقوش الرعامسة ، أو أقيمت في أنحائه تماثيل على شاكلة تماثيل رمسيس الثاني لفقد المعبد الاتساق الذي يجمع بينه وبين نقوشه وما كان يحتويه من تماثيل . ولو نقشت المعابد الضخمة من عهد الرعامسة بنقوش دقيقة أنيقة من طراز النقوش من عهد أمنحوتب الثالث لفقدت هذه المعابد ما يجمعها بنقوشها من توافق .
وما ريب في أن ما يتمثل بين عمارة كل زمن وتماثيله ونقوشه وصوره من اتساق وتناسق إنما يرجع إلى روح كل عصر ، وانه كانت تجمع البنائين والنحاتين والنقاشين والمصورين روابط قوية من نظم وتقاليد ، ومشاعر وأفكار ، ومثل وأهداف ، وصلات وطيدة من جنس وزمان وبيئة ، وأنهم كانوا يستلهمون إيحاءات متشابهة تقرب بين أعمالهم ، وقد عقد هذا كله الصلة بين العمارة والنحت والنقش والتصوير ، بل إنها لتتعاون جميعا في تحقيق ما قصد إليه منها من أهداف وغايات في تكامل وتوافق .
وليست تقام البيوت والمعابد والمقابر إلا لتحقيق ما يراد منها من أغراض وتوفير المكان المناسب لما يحتاج إليه من متاع وأدوات مما يعقد الصلة كذلك بين المبنى والغرض منه وما يودع فيه من أثاث ، وخاصة ما كان يفرد له مكان ثابت كالزوارق والنواويس وموائد القرابين والمسلات والتوابيت وغيرها مما عسى أن يكون له أثره في تخطيطه أو مظهره ، وهو ما ينبغي أن يكون موضع الاعتبار . وقد ضاع ما كانت تحتويه البيوت والمعابد في مصر القديمة من أثاث إلا أمثلة قليلة ، على أن ما حفظ منه في بعض المقابر وما يحلى الجدران من صور إنما ينبئ عما كانت تشتمل عليه القصور والبيوت والمعابد من متاع يتميز بما يتمثل فيه من جمال وحسن نسب يرقيان به إلى مستوى فني رفيع .
والفنون والصناعات إنما هي خير سبيل لتفهم الأمم وما أحرزت من حضارة . والعمارة المصرية شأنها شأن فنون النحت والنقش والتصوير تنطق عن روح المصريين ، بل قد تكون في بعض الأحيان أوضح بيانا لما كان يختلج في نفوسهم من مشاعر وأفكار . وقد كان لها عندهم شأن عظيم ، يدل عليه أن من البنائين من رفعوه إلى مصاف الآلهة ، وكفى بذلك تشريفا للبنائين وفن البناء . وهي مع ذلك تؤلف صفحات مجيدة في تاريخ الحضارة الإنسانية عامة ، يمكن أن نترسم فيها بداياتها الأولى على ضفاف النيل ، وان نتبع تطوراتها وتوفيقاتها مدى ثلاثة آلاف سنة على الأقل ، وما حققته من أمجاد تشرف الإنسانية وتعلى من شأنها .
وفي الحق لقد أسهم المصريون في تطور العمارة في العالم بما يكفل لهم ذكرا مجيدا في تاريخ البناء ، فمنذ ثلاثة آلاف عام من قبل الميلاد عرفوا كيف يبنون العقود والأقباء من اللبن ، وكيف ينشئون القباب . وقد كانوا أول من شيد بالحجر ورفع الأساطين والعمد ، وأقدم من أقام المباني الضخمة وتوجيها بالطنف ، وانشأ فيها الصفات والأفنية المحاطة بالأعمدة أو الأساطين ، وشيد المعابد المحاطة بالأعمدة . وكانوا أول من عرف الملاقف لتهوية داخل البيوت ، وأعلى البناء طوابق ، وانشأ طراز البازلكا ، وأقام المدن المنظمة . وقد علموا غيرهم حسن البناء بالحجر النحيت ، وعنهم اخذ الإغريق وشعوب البحر الأبيض المتوسط فيما يظن بعض عناصر الأساطين كالتاج النباتي ، والركيزة ، والساق المقناة ، والميزاب في شكل أسد ، وبعض العناصر الزخرفية .
والعمارة المصرية بعد ذلك معرض حافل بالجمال ، ولا تزال أرضا بكرا لكل باحث ودارس ، إذ لا يزال كثير من مسائلها في حاجة إلى درس واستقصاء ، فما أجدرها لذلك كله بالاهتمام والتقدير .



العمارة المصرية خصائصها وما اثر فيها من عوامل:

لازمت العمارة المصرية طوال تاريخها القديم صفات وخصائص يعين التعرف عليها ومعرفة أسبابها من اجل فهمها وحسا تقديرها .
وقد كان للظروف الطبيعية ومواد البناء وعقائد المصريين وتصوراتهم وأحوالهم السياسية والاقتصادية وما جبلوا عليه من نشاط وامتازوا به من كفاءة أثرها جميعا فيما أنشأوا من عمائر .

وتتميز مظاهر الطبيعة في مصر بقوتها وروعتها وشدة جلائها ووضوحها واستقامة خطوطها ، واستقرار أحوالهم مدى الأيام والسنين . فنيلها عظيم في طوله واتساعه ، يجري بين شاطئيه في جلال ، ناشرا الخصب والحياة عن يمين وشمال . وشطئانه مستوية في أكثر الأحيان ، وموجه يعلو ويزيد في ميعاد معلوم من كل عام ، فإذا فاض وجاوز حده كسر الحواجز والجسور ، واغرق المزارع والقرى .

والوادي الخصيب يمتد على طول النهر من الجنوب إلى الشمال ، تتخلله القنوات في خطوط مستقيمة . والشمس تمخر سماء مصر كأنها ملك عظيم ، الربي والوديان بضوئها الساطع فتبدو الأشياء على حقيقتها السافرة أوضح ما تكون بما لا يدع مجالا للبس أو وهم أو خيال .

ومناخ مصر جاف معتدل على مدار العام ، والطبيعة فيها سمحة هادئة مستقرة في صمت ووقار ، لا تكاد تختلف من مكان إلى آخر ، فالقرى تتوالى متشابهة ، بعناصر مشتركة من النخيل والشجر وغيره .

هذه الطبيعة الجليلة الوقورة ، السافرة الواضحة ، المستقرة ، المستقيمة ، المتشاكلة ، لا بد أن غمرت قلوب أبنائها وأحاسيسهم ، وقد كانوا على صلة وثيقة بها ، بمعاني الجلال والوقار ، والقوة والعظمة ، والوضوح والجلاء ، والثبات والاستقرار ، والاعتدال والاستقامة ، فتأثرت بها أفكارهم ، وطبعت عليها نفوسهم ، ووجدت سبيلها إلى أعمالهم الفنية وعلى رأسها جميعا مبانيهم و عمائرهم . وها هو ذا ما حفظ من معابدهم وأهراماتهم في عهد الأسرات تمتد فيها الجدران مصمتة ، لا تتخللها غير فتحات ضيقة، وتعلو فيها الصروح قوية شاهقة ، وتتعاقب فيها الأفنية والأبهاء والقاعات على محور مستقيم ، واضحة بسيطة ، لا تعقيد فيها ولا إبهام ، سطوحها في الغالب الأعم مستوية ، لا مقبية و لا مقببة ، وتتفق ومحيطها أحسن ما يكون الاتفاق ، وتتسق خطوطها الأفقية والراسية وخطوط الهضبة أتم اتساق . وها هي ذي الأساطين السامقة بطرزها النباتية المختلفة ترفع السقوف مسافات عالية ، وتضفي على المكان روعة وجلالها ووقارا حتى ليبدو وكأنه جزء من طبيعة الوادي الخصيب . بهذا كله بلغت العمارة المصرية الكمال في محيطها ، وهو سر عظمتها وما يثير الرضاء بها والإعجاب .

ومصر قليلة الأمطار ، ومن اجل ذلك كانت الأفنية عنصرا هاما في العمارة المصرية . وللسبب ذاته غدت سطوح المباني وخاصة في العمارة الحجرية طوال العصر الفرعوني مستوية ، وكان لها دور هام في حياة المصريين في بيوتهم ، وقد تزود في المعابد بمأزيب فخمة لتصرف ما قد يهطل من سيول فجأة من حين إلى حين.
ولاتقاء حرارة الشمس وضوئها القوي كانت الصفات في واجهات المباني أو حول الأفنية الداخلية عنصرا هاما لتوفير الظل. وكانت النوافذ في المعابد فتحات صغيرة في أعلى الجدران أو في السقوف مما يترك مساحات معمارية كبيرة للصور والنقوش ، في حين كانت مداخل الأبواب في المعابد والمقابر كبيرة فخمة ، يدخل منها ضوء كاف يضئ مساحات كبيرة ، ولكنه لا يلبث أن يقل شيئا فشيئا فيزيد في روعة المكان، والنقوش غائرة في السطوح الخارجية والسطوح المعرضة لضوء الشمس بما يقيها العطب ويسمح للأضواء والظلال أن تتلاعب عليها بما يخفف من حدة الضوء الشديد ويضفي على الجدران جمالا، وهي دقيقة بارزة في سطوح الجدران الداخلية بما يكفل لها الوضوح في الضوء الضعيف الخافت ، ويكون لها الأثر الجميل في النفس .

وكان "نسيم الشمال العليل" يلطف من حرارة الجو في أيام الصيف ، لذلك كانت الصفات وواجهات البيوت تستقبل عادة الشمال ، كما كانت تنشا في السقوف ملاقف تتلقى الهواء البارد بما يتفق وأماني المصري القديم من أن يتنشق ريح الشمال العليل المضمخ بعبير الآلهة .
ولمواد البناء اثر واضح في الأشكال المعمارية ، حتى إن استبدال مادة بأخرى يقتضي عادة تعديل طراز البناء أو تغير نسبه ، ولا يكون البناء جميلا متكاملا إلا إذا كان بين طرازه والمادة التي بنى بها اتساق . وقد كانت مواد البناء الأولى في مصر مما كان ينمو في وادي النيل من أعواد النبات من البردى والغاب والسمار ومن فروع الشجر ، وقد وجد فيها المصريون مواد سهلة يقيمون منها أكواخهم البدائية بما كان يوائم حالتهم الثقافية والاقتصادية وما كانوا يملكون من أدوات . وكان من الملامح البارزة للأكواخ آنذاك قلة مساحتها ، واستدارة مخططها وتقوس أعلى مداخلها ، وانحدار سقوفها أو تقبيها بعقد أطراف أعواد النبات من فوقها ، بما يمكن أن يعد أصلا للسقوف الحدباء والأقباء والقباب ، وفي ذلك الزمن البعيد كان من سقوف الأكواخ ما يرفع على فروع الشجر أو فوق حزم من أعواد النبات .
وقد ساعد اللبن الذي كان يصنعه المصريين من مخلفات النيل ويسر في البناء وساعد على سعة واستقامة جوانب البناء ، كما ساعد على أن يكون المدخل في بيت الزعيم أو الملك من شكل خاص فخم ، يبرزه ويعظم من شأنه بين سائر البيوت والمساكن .
ومن الصفات البارزة لعمارة المقابر الكبيرة في بداية الأسرات تكسر سطوح جدرانها الخارجية في مشكاوات متداخلة ، ساعد البناء باللبن على ازدهارها إن لم يكن قد أدى إلى نشأتها . و هكذا كان اللبن ذا اثر لا ينكر في العمارة المصرية .
ومنذ الدولة الوسطى كان يراعى أن يكون طول اللبنة ضعف عرضها لينتفع بها في البناء طولا وعرضا بما يكفل تماسك البنيان ومتانته . ولما كان الطمي متوفرا في كافة أنحاء مصر ولا يحتاج صناعته إلى مهارة كبيرة فان البناء به رخيص ، ويناسب طقس مصر لقلة الأمطار فيها ، فضلا عما يتوفر في البيوت التي تبنى منه من دفء في الشتاء واعتدال حرارة في الصيف ، وقدرة على البقاء زمنا طويلا لا يتلفه إلا ما تذروه الرياح من رمال يسهل علاج أثره بملاط من طين يجدد من وقت إلى آخر .

ومن اللبن كانت تبنى البيوت والقصور وأسوار المدن وبعض المعابد ، ولكن أكثرها اندثر لوقوعه في مناطق الأحياء ولأن البناء باللبن لا يدوم بطبيعة الحال قدر ما يدوم البناء بالحجر . ومع أن المصريين صنعوا اللبن منذ أواخر ما قبل الأسرات فإنهم لم يستخدموه محروقا إلا في العهد المتأخر على عكس غيرهم من الشعوب وخاصة البابليين ، وذلك لوفرة الأحجار المختلفة في مصر وقلة مواد الحريق بها .
وكان الملاط في المباني من اللبن هو الطين ، وهو أصلح المواد لهذا الغرض ، ولا يزال يستخدم في المباني من اللبن حتى الوقت الحاضر . وكانت الجدران من اللبن تطلى أيضا بطلاء من طين ، وكان نوعين ، نوع خشن يتكون من طمي النيل العادي ، ونوع جيد يتكون من خليط طبيعي من طين دقيق الحبيبات وحجر جيري .
وقد شغف المصريون بالخلود فما يعرف من شعوب العالم من تحدث مثلهم عن ملايين السنين وعن الأبدية . وفي كفاحهم ضد الفناء وجدوا في أحجار الصحراء ما يتسق وما صبوا إليه من أهداف ، فاستغلوها اكبر استغلال . وكان الملوك يوفدون البعثات إلى أسوان وأماكن مختلفة في الصحراء الشرقية لجلب الأحجار المختلفة اللازمة للأهرامات والمعابد والأبواب الوهمية والمسلات والنواويس والتماثيل والتوابيت وغيرها ، بما كفل لمنشأته البقاء آلاف السنين ، وميز العمارة المصرية على عمارة البلاد الأخرى وخاصة عمارة بابل وأشور ، حتى ليقال بحق أن مصر وطن البناء بالحجر .

استخدام الحجارة في العمارة المصرية أو الحجارة والعمارة الفرعونية :
وكان الحجر الجيري حجر البناء الرئيسي في الدولة القديمة ، وهو من الأحجار الرخوة ، ويتوفر بكثرة في الهضاب التي تكتنف وادي النيل مباشرة في الشرق والغرب من إسنا إلى القاهرة . ومنه نوع جيد يمتاز بصلابته ودقة حبيباته في طره والمعصرة جنوبي القاهرة بإزاء منف ، وفي الجبلين جنوب ارمنت بقليل . ولجودته كانت تكسى به الأهرامات والمصاطب الكبيرة ، وتبنى به الدهاليز والقاعات وخاصة ما كانت جدرانها تنقش بالصور . بيد أن أطول مسافة يمكن تسقيفها بالحجر الجيري لا تزيد على ثلاثة أمتار ، لذلك كانت أكثر القاعات في الدولة القديمة ضيقة ، على أن من الأبهاء في بعض المعابد والمقابر ما أمكن تسقيفه بأحجار جيرية تعتمد على أعتاب فوق صف أو صفين من الأعمدة أو الأساطين . كذلك ساعد الحجر أيضا على استقامة السطوح ، بيد أن من سقوف بعض غرف الدفن العريضة وما يتصل بها من ردهات ما هو احدب ، يتكون من أحجار مائلة يعتمد طرف احدها على طرف الأخر في شكل مثلث مما ساعد على توزيع ثقل الجزء العلوي من البناء ، ويزيد في قوة هذا الطراز من السقوف أن يكون من طبقتين أو ثلاث كل منها تعلو الأخرى . ومن السقوف ما كان يبني من حجر الجير فيشكل عقد مدرج على طريقة بعض الأقباء من اللبن . ومن هذه السقوف بنوعيها ، الأحدب والقبو المدرج ما كان ينحت سطحه الأسفل في هيئة قبو كاذب . وقد ظل المصريون يستخدمون حجر الجير في بناء المعابد والمقابر حتى أواسط الأسرة الثامنة عشرة ، ثم بعد ذلك في حدود ضيقة . وكان الكتبة يسجلون على الأحجار بعد قطعها في محاجر أسماء فرق الحجارين الذين قطعوها وتاريخ قطعها وأجزاء البناء التي ستبنى فيها وغير ذلك من تفاصيل .
وكان الملاط في المباني من الحجر من الجبس ، ولا يعرف أن المصريين قد استخدموا الجير ملاطا قبل العهد اليوناني وذلك رغم أن الحجر الجيري متوفر في مصر ، أكثر من الجبس ، وأسهل منالا ، ولعل ذلك يرجع إلى قلة الوقود في مصر ، إذ يحتاج حرق الجير إلى درجة حرارة أعلى كثيرا من حرق الجبس . وانه ليصعب علينا الآن أن نتصور إمكان البناء بغير ملاط يربط بين الأحجار ، ذلك لأننا تعودنا البناء بأحجار صغيرة يقتضي تماسكها ملاطا بينها .
ومع ذلك لم يكن الغرض من ملاط الجبس في المباني الحجرية التي شيدها المصريون بكتل كبيرة من الحجر ربط الأحجار بعضها ببعض لان في ثقل الأحجار ما يغني عن ذلك ، وإنما كان لملء الفجوات الدقيقة في السطوح العليا للأحجار إلى تحمل أثقالا كبيرة في جدران عالية ، ولتوزيع ما يقع عليها من ثقل مما جنبها التشقق وكفل لها كمال التصاق الأحجار بعضها ببعض . وربما كان الغرض منه أيضا تيسير تحريك الأحجار الثقيلة و وضعها في مكانها من البناء بدقة ، بما كان يقي في ذات الوقت حوافيها وحوافي الأحجار المجاورة من التلف في وقت لم تكن تستخدم فيه بكرات أو رافعات . ولتحقيق ذلك كله كان ملاط الجبس يستخدم سائلا بدرجة كبيرة حتى انه عند جفافه لم يكن يتجاوز أن يكون أكثر من طبقة رقيقة . وكانت الجدران والسقوف تطلى بطلاء الجبس أيضا ، وكان هذا الطلاء يستخدم كذلك في علاج العيوب في الجدران وفي تسوية سطوحها قبل نقش الصور والمناظر فيها .
وكانت الأحجار الكبيرة تنقل على زلاقات من خشب ، وقد عثر بالقرب من هرم سنوسرت الثاني في اللاهون وهرم سنوسرت الثالث في دهشور على ما يدل على استخدامها . ومن النصوص ما يدل على أن أحمس الأول افتتح في السنة الثانية والعشرين من حكمه محجرا جديدا في طره للحصول على حجر جيري ابيض جميل لمعبدي بتاح في منف وأمون في طيبة ، وتمثل الصورة المجاورة للنص ثلاثة أزواج من الثيران تجر زلاقة محملة بالحجر ، ويسوقها ثلاثة أسيويون .
ومن المعابد ما كانت تكسى جدرانه وتسقف قاعاته بحجر الجرانيت ، وتنحت منه أعمدته أو أساطينه وعتبه واطر أبوابه . وكان يؤتى به من أسوان وخاصة من جزيرة الفنتين ، ومنه الأحمر الوردي والأشهب والأسود . ومن نقوش الملك اوناس ما يمثل نقل أساطين وكرانيش من جرانيت احمر لمعبدي هرمه . بيد أن صعوبة تسوية سطوح الجرانيت لم تشجع كثيرا على استخدامه في نطاق واسع ، وان كانت الدولة القديمة أكثر العهود التي استخدم فيها الجرانيت في المعابد والأهرامات وخاصة للمتاريس وتسقيف القاعات التي يزيد بحرها على ثلاثة أمتار . وكانت تنحت منه أيضا الأبواب الوهمية والتماثيل والمسلات والنواويس والتوابيت وغيرها .
ولما كان من الممكن اتخاذ أحجار طويلة من الحجر الرملي ، فقد يسر ذلك في الدولة الحديثة تسقيف مساحات عريضة ، وإقامة قاعات ، وأبهاء واسعة ، ومباني ضخمة ، مما كان له اثر واضح في العمارة المصرية . ومن أمثلة ذلك في معبد الكرنك صحن بهو الأساطين العظيم ، الذي يبلغ عرضه تسعة أمتار .
ويتوفر الحجر الرملي في التلال الممتدة من وادي حلفا إلى كلابشة في بلاد النوبة ثم من أسوان إلى إسنا ، وكانت أهم محاجره في جبل السلسة ، شمالي أسوان بنحو 70 كيلو متر وذلك بين ادفو وكوم امبو . وقد استخدمه المصريون في البناء على مدى واسع منذ أواسط الأسرة الثانية عشرة حتى العهد الروماني ، وذلك في معابد الأقصر والكرنك و الرمسيوم ومدينة حابو وغيرها ، كما صنعوا منه أيضا التوابيت والتماثيل والنصب .
وكان حجر الكورتزيت احد الأحجار الجميلة التي استخدمها المصريون ، وهو حجر رملي صلد متبلور ذو لون يميل للاحمرار ، ويوجد في الجبل الأحمر شمال شرقي القاهرة بنحو عشرة كيلومترات ، وفي الجبلين ، وقد صنعوا منه عتب بعض الأبواب ، ونحتوا منه بعض غرف الدفن ومن ذلك غرفة دفن الملك أمنمحات الثالث ، كما صنعوا منه بعض التوابيت والتماثيل .
وساعد في البناء كذلك المرمر المصري (الكلسيت) ، وهو من الأحجار الرخوة ذات اللون الأبيض أو الأبيض الضارب للصفرة ، ويشبه المرمر ولكنه يختلف عنه في تركيبه ، ويتميز بدقة حبيباته وصلاحيته للصقل الجيد . ويوجد في مصر في أماكن من الصحراء الشرقية وخاصة بالقرب من حلوان ، وفي جنوب شرقي العمارنة . وقد استخدمه المصريون في رصف ارض بعض المعابد وتكسية بعض الجدران وفي بناء بعض الجواسق والمقصورات ، وصنعوا منه موائد للقربان و نواويس وأواني و تماثيل و توابيت .
ومن الأحجار المساعدة أيضا حجر البازلت ، وهو حجر صلد اسود أو أشهب قاتم ، وكان يستخدم في رصف ارض بعض المعابد وفي بناء سافلات الجدران . و يظن أن مصدره جبل القطراني في الفيوم ، بيد انه يوجد كذلك غي أبو زغبل وفي شمال غربي أهرامات الجيزة .
وكان قطع الأحجار في المحاجر واستخدامها في البناء تقوم به الدولة حتى العصور المتأخرة على الأقل ، ومن شأن الأعمال الحكومية أن تلتزم أشكالا وأساليب ثابتة ، مما كان له أثره بصفة عامة في العمارة المصرية .
ويتميز المصريون بأنهم أقاموا أضخم الأعمال بأبسط الوسائل والأدوات مما يصعب تصوره في عصر الآلة في الوقت الحاضر ، حتى لقد ذهب الظن إلى أنهم استخدموا آلات من الصلب في قطع أحجار الجرانيت . وان التأكسد قد اتلف هذه الآلات بعد قرون قليلة فلم يبق منها شئ . وينقض هذا ما عثر عليه من أمثلة كثيرة من آلات النحاس ، فلو أن المصريين استخدموا أدوات من الصلب لبقي منها بعض أمثلة بفضل جفاف مناخ مصر وتربة الصحراء ، أو لدلت عليها أثارها في المعابد والمقابر .
وقد قيل أيضا أنهم عرفوا كيف يلينون الجرانيت بوسائل كيماوية قبل استخدام الأزميل فيه . على انه لاشك في أنهم أفادوا خبرة كبيرة في نحت الحجر الرخو والصلد على حد سواء وذلك فيما اخرجوا من أعداد لا تحصى من الأواني الجميلة من مختلف الأحجار في عصور ما قبل الأسرات وبداية الأسرات ، ومن حفر المقابر في الصخر في منطقة منف .
وكانت الأحجار الرخوة ، وهي الحجر الجيري والرملي والمرمر المصري ، تفصل في محاجرها بحفر أخاديد من فوقها ومن حولها وذلك بأزاميل من حجر أو نحاس حتى الدولة الوسطى ، ثم من نحاس أو برنز حتى انتشار استخدام الحديد في صناعة الآلات منذ بداية القرن السابع قبل الميلاد . وليس من شك في أن ازدياد استخدام النحاس في صناعة الآلات في بداية الأسرات وصناعتها من البرنز منذ الدولة الوسطى قد يسر قطع الأحجار وقيام العمارة الحجرية وازدهارها . وكان يدق على الأزاميل بمداق من خشب أو حجر . وكانت الأحجار الكبيرة تفصل من أسفل بأسافين من خشب تبل بالماء كي تتمدد فيتشقق الحجر ، أما الأحجار الصغيرة فكانت تفصل بأسافين يدق عليها . وفي العصور المتأخرة كانت الأسافين تتخذ من حديد .
ويغلب على الظن أن كتل الجرانيت كانت تتخذ بادئ الأمر من جلاميد الصخر إلي فصلتها العوامل الطبيعية . ومهما يكن من أمر فقد أصبحت الأحجار الصلدة ومنها حجر الجرانيت والكورتزيت تقتطع بأسافين من خشب يبل ، أو بدقها بكرات من الدولريت ، وهو حجر صلد مائل للاخضرار يوجد في بعض وديان الصحراء الشرقية بين النيل والبحر الأحمر . على إن الأسافين لم تكن تستخدم في قطع المسلات ، وذلك لما تحدثه من ضغوط غير متساوية لا تقوى المسلات على تحملها لقلة سمكها وطولها ، لذلك كانت تفصل من جوانبها ومن أسفلها بطريق الدق .
وهكذا لم تكن أدوات المصريين وآلاتهم لتعدو أدوات من حجر ونحاس وبرنز وخشب ، وذلك على الرغم من رخاوة النحاس الذي قد يفيد الطرق والتسخين في تقسيمه ، ولكن الطرق مع ذلك يجعل حواف الآلات سريعة القصم ، لذلك قيل انه كانت للمصريين طريقة خاصة في تقسيمه النحاس اندثرت باستخدام الحديد في العصور المتأخرة ، على أن من الكيماويين من أنكر ذلك وعده من قبيل الأساطير .
ومهما يكن من أمر فإننا لا نملك إلا أن نحني رءوسنا إجلالا وتقديرا أمام تلك المنشات الماردة التي أقامها المصريون ، خاصة إذا علمنا أنهم لم يستخدموا فيها غير عتل وزلاقات وجسور ، وان من عمائرهم ما بلغت فيه دقة التحام الأحجار بعضها ببعض غاية لا تفوقها غاية في أحجار منها ما يزن خمسة عشر طنا ، وكان ذلك في عهد خوفو في أوائل القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد . ولئن كانت عمائرهم بعد ذلك لم تبلغ هذه الغاية من دقة البنيان ، أو أنها لم تخل من عيوب ، منها ضعف الأساس وضعف الجدران السميكة ، في الوقت الذي أقاموا فيه المسلات ، فلابد أن كان لذلك أسبابه ، التي قد يكون منها كثرة البناء والحرص على انجازه في وقت قصير . وما ينبغي أن ننسى مع ذلك أن مستوى ماء النيل قد كان منخفضا ، فلم يكن للمياه الباطنية أثرها السيئ ، فضلا عن قلة سقوط المطر إذ ذاك . ومهما يكن من شيئ فان النصوص لتدل على أن أعمال البناء . وكان العمل يجري في اتساق ونظام دقيق وربما على نغم الناي في بعض الأحيان على الأقل .
وقد لازمت البناء بأعواد النبات والبناء باللبن منذ عصور ما قبل الأسرات أشكال وخصائص اقتضتها طبيعة كل منهما ، ومن ثم وجدت سبيلها إلى العمارة في الحجر لما اكتسبت من قداسة ، ولما كانت تكنى عنه من معان ورموز ، وقد توارثها المصريون جيلا عن جيل بحكم ما جبلوا عليه من استمساك بتقاليدهم القديمة . ومن ذلك الخيرزانة والكورنيش المصري . أما الخيرزانة فهي بروز اسطواني يحف بجدران المعابد والهياكل والأبواب وبأعلاها ، وكانت تمثل عليها خطوط متعارضة ومائلة تمثل الأربطة ، إذ ترجع في أصلها إلى حزم من أعواد النبات ، كانت تقوى بها أركان الأكواخ وأعاليها . وأما الكورنيش المصري فيتوج جدران المعابد فوق الخيرزانة ، وأسفله مستو حتى ليعتبر امتدادا لأعلى الجدار ، ثم لا يلبث أن ينحني إلى أمام في انحناء رشيق يشبه الانحناء بين رأس الإنسان ورقبته ، وينتهي في أعلاه بشريط مستو . ويحلى الجزء المنحنى ما يبدو انه يمثل سعف النخل بلون اخضر أو ازرق أو احمر أو بالألوان الثلاثة معا . ولذلك يظن أن العنصر الأصلي في الخيرزانة والكورنيش المصري كان جريد النخل ، وخاصة لما يمتاز به من مرونة وصلابة معا . على أن من الأثريين من يرى انه كان غصون بردى أو سمار أو غاب ، على زعم أن جريد النخل إذا ثبت قائما لا يكون لأعاليه الشكل المنتظم والمنحنى الذي للكورنيش المصري ، وإنما ينحني بعضه إلى خارج وبعضه إلى داخل ، بينما يظل معظمه مستقيما بدرجة كبيرة أو صغيرة . وينقض ذلك أن الجريد إذا نظم بحيث يكون باطنه إلى داخل وظاهره إلى خارج وفق طبيعته من فوق أشجار النخيل فانه ينحني إلى الخارج ، هذا فضلا عما يعرف عن المصري القديم من ميل شديد للترتيب والتنظيم ، كما انه لا يخفى أن الجريد لا يستقيم له عود .
والخيرزانة والكورنيش المصري من ابرز ملامح العمارة المصرية ، وقد كانت للأولى فائدتها وللثاني حتميته في المنشآت من أعواد النبات ، أما في العمارة الحجرية فقد أصبحا من عناصر الزخرفة التقليدية ، تحلى بهما الجدران الخارجية الهامة والأبواب لما وجد فيهما المصري القديم من رشاقة وجمال ، ولما كانا يكنيان عنه من معنى ، وإنهما في الحق ليتسقان وخطوط العمارة المصرية وجلالها أجمل اتساق . وكانت تحلى بهما أيضا النصب والنواويس وغيرها . وكان أقدم ما عرف من أمثلتها قبل الكشف عن مباني زوسر في صقارة في تابوت منقرع الذي غرق في خليج بسكاي أثناء نقله إلى انجلترا .على أن من مباني زوسر ما كانت تحليه الخيرزانة والكورنيش المصري ، ويتميز فيها الكورنيش باستقامة خطوطه ويرجع ذلك فيما يرجح إلى بداية تقليده في الحجر .
ومنذ الأسرة الرابعة على الأقل استخدم البناء المصري الأعمدة المربعة ، كل عمود من كتلة واحدة ضخمة من الحجر ، بما يسر إقامة أبهاء واسعة سقوفها بلاطات كبيرة من الحجر يحملها عتب ضخم فوق صف أو أكثر من الأعمدة .والعتب عنصر معماري هام يربط اعالى الأعمدة بما يزيد في متانة البنيان ، ويفيد في نفس الوقت في حمل أحجار السقف الكبيرة ، ويعتبر فاصلا بين الأجزاء العمودية في البناء والأجزاء الأفقية . ويظن أن العمود يرجع في أصله إلى الأعمدة أو الدعائم التي كانت تترك في الصخر قائمة في المحاجر والمقابر الصخرية ليعتمد عليها السقف ، بيد انه لا يتحتم ذلك ، إذ قد يؤدي إليه استخدام الأحجار الضخمة في البناء والرغبة في متانة المبنى واتساعه .
ومن ابرز مميزات العمارة المصرية ومفاخرها الأساطين النباتية ، وهي تتميز على الأعمدة بأناقة أشكالها وطراوتها ، فضلا عن أنها تضفي على البناء حياة وجمالا . ومن الباحثين من ذهب إلى أنها من ابتداع المصريين أنشئوها إنشاء وحاكوا بها النبات مباشرة ، أي أنها كانت وليدة فكرة لم يسبقها تمهيد يؤدي إليها ، وهو مالا يتفق وما يعرف عن المصريين ، ويدل عليه كثير من العناصر المعمارية . وما من ريب في أنها ترجع في أصولها الأولى إلى أزمنة قديمة عندما كان السكان الأولون يدعمون عروش أكواخهم بحزم من أعواد النبات أو بفروع الشجر أو جذوعه . ويغلب على الظن إن منها ما كان يحلى في أعلاه بزهور او أوراق الشجر وبخاصة في الأعياد والحفلات الدينية ، ثم لم يلبث أن غدا ذلك تقليدا مرعيا .
ولا بد انه كان لاختيار البردى واللوطس والنخيل لتحلية اعالى الأساطين أسباب معينة ، لكثرتها إذ ذاك بين نباتات مصر ، أو لان المصريين أعجبوا بها أكثر من غيرها لحمال تكوينها وحسن أشكالها ، أو لان منها ما كانوا بجنون منه فوائد هامة ، أو لأنها كانت تكنى عندهم عن معان تخفى علينا الآن . وقد يؤيد ذلك أن البردى كان رمز الشمال ، وان الإله الشمس تجلى في بدء الخليقة على زهرة لوطس . وفي أوائل عهد الأسرات على الأكثر كان من الأساطين في المعابد والقصور ما ينحت من خشب على هيئة الدعائم الأولى ، ومنها ما كانت أعاليه تنحت في صورة زهرة ، فكانت بذلك الأساطين الأولى ذات التيجان النباتية المنحوتة . وقد ظلت أساطين المظلات الخفيفة في الحدائق والحقول تنحت من الخشب . ومنذ الدولة القديمة كانت معظم أساطين المعابد تنحت من الحجر وأهمها أساطين نخيلية وبردية ولوطسية .
ومن أثار البناء بأعواد النبات كذلك تسقيف بعض المباني في الأسرتين الثالثة والرابعة بأحجار نحيتة ، سطوحها السفلى في شكل أنصاف أساطين ومدهونة بلون احمر تمثيلا لجذوع النخل التي كانت تسقف بها المباني من اللبن . ومنها الشرف في اعالى الجدران من اللبن أو الحجر ، التي يظن أنها ترجع إلى ثنى أطراف أعواد النبات وعقدها في شكل أنصاف دوائر . ويغلب على الظن أن منها أيضا عنصرين من عناصر الزخرفة الهامة في العمارة المصرية في كافة عصورها ، ويرجع احدهما إلى عقد الأطراف العليا لأغصان البردى على شكل خاص . ويرجع الآخر فيما يبدو إلى حزم اعالى البردى بعدد من الأربطة ، ويسمى في بعض الأحيان بعمود أزريس . وقد اتخذت منهما الكتابة الهيروغليفية علامتين من علاماتها ، تعني إحداهما "زخرف" ، وترمز الثانية إلى معنى الدوام .
وساعد النيل ، وقد كان أهم وسائل المواصلات في مصر وخاصة في زمن الفيضان ، على نقل الأحجار من المحاجر إلى مناطق البناء منذ الأسرة الأولى . ومنذ عصور ما قبل التاريخ كان المصريون يبنون المراكب الكبيرة ومع الزمن تقدموا كثيرا في بنائها بما جارى ازدياد الطلب على الأحجار الضخمة . ومن أقدم ما سجله التاريخ أن سنفرو بنى مركبا طولها مائة ذراع أي ما يزيد على 51 مترا ، وقد جلب من لبنان خشب الأرز على أربعين مركبا ، ولا بد أنها كانت مراكب بحرية . وذكر أونى من الأسرة السادسة انه بنى في سبعة عشر يوما سفينة من خشب السنط لنقل الأحجار طولها ستون ذراعا وعرضها ثلاثون أي أكثر من ثلاثين مترا طولا وخمسة عشر مترا عرضا . وسجل انينى ، مهندس تحوتمس الأول ، انه نقل المسلتين اللتين اشرف على إقامتهما في الكرنك في مركب طولها 120 ذراعا (63 مترا) وعرضها 40 ذراعا (21 مترا) . ومن السفن ما كان يزيد طوله على ثمانين مترا ، ومنها ما كان يستطيع نقل ما زنته ألف طن على الأقل من أسوان إلى الأقصر سواء كان ذلك كتلة واحدة أو عدد من الكتل .
ولم يدخر المصريون وسعا في إعداد الطرق من المحاجر إلى النيل ، ومن النيل إلى مناطق العمل ، وحيثما كان يصعب ذلك في الصحراء في كثير من الأحيان ، كانت تبنى جسور كبيرة في الوهاد والمنخفضات حيث كانت الأحجار تنقل على زلاقات من خشب يجرها الرجال أو الثيران .
وكانت للعقائد الدينية والجنائزية أثرها الواضح كذلك في بناء المعابد والمقابر ، فقد كان المصريون من اشد الأمم تدينا وأكثرهم اهتماما بالحياة الثانية ، وأعظمهم رعاية لموتهم ، وأحفظهم على تقاليدهم . وقد أقاموا لآلهتهم المعابد الضخمة في كل مكان ، وابتنوا المقابر الكبيرة ، وأودعوا فيها غالى الرياش . وفي مطلع العصر التاريخي اقترن توحيد القطرين بضم تقاليدهما السياسية معا ، ولا بد أن صاحب ذلك أيضا ضم تقاليدهما الدينية والجنازية ، وان ذلك كان له أثره في عمارة المعابد والمقابر . وكانت معابد الآلهة والمعابد الجنازية مسرحا لمناسك وشعائر أكثر أيام السنة مما كان له أثره بطبيعة الحال في تخطيطها وان خفيت تفاصيل ذلك عنا الآن . وما من ريب في أن عبادة الشمس وعقيدة أزيريس كان لهما صداهما كذلك . وان تكرار المشكاوات في السطوح الخارجية لجدران المقابر في بداية عهد الأسرات ، واتجاه مداخل الأهرامات في الدولة القديمة نحو الشمال ، ووقوع معابد الأهرامات في الشرق منها ، ومواجهة الأبواب الوهمية للشرق ، وتدرج ارتفاع ارض المعبد ، وتدرج انخفاض سقوفه قد كان بغير شك مما قضت به العقائد والتصورات الدينية والجنازية .
ثم ألم يكن الاهتمام البالغ بوقاية الجثة والعمل على صيانة ما كان يودع معها من ذخائر من أن تمتد العبث من بين الأسباب الهامة في تطور المقبرة ، وفي نشأة الشكل الهرمي في الدولة القديمة ، وفيما ابتدعه البناء في من حيل في إخفاء غرفة الدفن في الدولة الوسطى ، وفي فصل المقبرة الملكية عن المعبد الجنازى في الدولة الحديثة ، وليس ينكر أن بين طراز كل بناء والغرض منه صلة واضحة ، وان البناء الموهوب هو الذي يوفق بينهما في مخطط متسق . وقد وفرت المعابد والمقابر المصرية الأماكن المناسبة لأداء المناسك والشعائر المختلفة في مخطط موحد متكامل حقق ما كان يقصد إليه منها .
وقد مرت مصر في تاريخها القديم بظروف سياسية وتاريخية مختلفة ، صاحبها أحوال اقتصادية وعمرانية متباينة ، كان لها في جملتها وتفصيلها أثار عميقة في الفنون المصرية ومنها العمارة.
وقد كانت الفنون المختلفة تزدهر وتبلغ غاية تطورها في عهود الحكم المستتب والإدارة العادلة ، وتضمحل ولا يقوم لها شأن في عهد الاضمحلال والضعف السياسي . من ذلك ما كان لتوحيد القطرين في فجر عهد الأسرات من اثر بالغ في قيام حكم قوى وإدارة منظمة ساعدا على تطور الكتابة الهيروغليفية وازدهار الفنون والصناعات وخلق ملامح العمارة المصرية وطابعها العام . وضخامة البناء وبساطته معا في الأسرة الرابعة ، وتواضع منشآت الدولة الوسطى في أحجامها وموادها ، ورشاقة مباني الأسرة الثامنة عشرة وأناقتها ، وضخامة البناء في عهد الرعامسة لم يكن ليأتي لو لم يتسق وروح كل عصر أهدافه وظروفه الاقتصادية والسياسية . وقد كان للعاصمة في العهود المزدهرة أثرها الواضح في ابتداع الأساليب والطرز الفنية ، ومنها كانت تجد سبيلها في سهولة الى عواصم الاقاليم . على انه كان لذلك أثره السلبي من جهة أخرى ، فلم يتح للأقاليم أن تكون لها خصائص مميزة في الفنون المختلفة ومنها العمارة ، مما كان يعين على تنوع الطرز واختلاف الوسائل والأساليب .
وكان لأشخاص الملوك أثرهم في منشآتهم الخاصة وفي معابد الآلهة في مختلف البلاد ، وكانت تدين لهم بوجودها وما يقفونه عليها من موارد . فقد كانت الآلهة تمنح الملك السلطان والنصر ، وكان عليه لقاء ذلك أن ينشئ لها المعابد ويقيم فيها التماثيل ويزودها بأدوات العبادة ويرتب لها الكهنة ويقف عليها الأملاك ويمنحها الهدايا والعطايا.
وكان يستعين في هذا كله بمنتجات أملاكه ومصنوعات مصانعه وما يحصل من جزى وغنائم . وكان كلما عظم انتصار الملك وجب عليه أن يعبر عن شكره للآلهة بالهدايا العظيمة والأعياد الكبيرة بما يكفل دوام رضائها عنه يضاف إلى ذلك أن الملوك كانوا يعتقدون أنهم من نسل الآلهة وان مصيرهم إليها ، فلم يكونوا يدخرون وسعا في كسب رضائها ، وهو ما تنطق عنه النصوص والوثائق .
ولم يقتصر اثر الملوك على كثرة المنشآت وتوفير أسبابها بتحسين مرافق البلاد ، وتنظيم مواردها ، وتدعيم أسباب الرخاء بين طبقات الشعب وتوفير الفنانين والأيدي العاملة ، وإنما كان يتعداه إلى طراز البناء وفخامته أيضا ، إذ كان الملوك اقدر من الأفراد على تحقيق ما يريدون من بناء ، ومنهم من لم يتوقف عن تحسين مباني الآلهة والموت وتجميلها . ومن الجبانات ما بنى على طراز موحدة متسق، يدل على إرادة إنشائية واحدة . لا يمكن أن تكون غير إرادة ملك قوي ذي سلطان واسع ولم يكن ليتيسر مالطراز البناء في الأسرة الرابعة من قوة وجلال لو لم يكن يعتمد على شخصيات ملكية عظيمة ، ولم تكن مباني رمسيس الثاني لتتسم بالضخامة التي تفوق التصور الإنساني ما لم يكن من ورائها ملك طموح لا حد لطموحه . ومن الملوك من لم يفته أن يتفقد بنفسه العمل فيما انشأ من منشات هامة ، ومنهم من كان يكلف عماله بصنع بعض الأجزاء المعمارية كالأبواب الوهمية ليهديها للمخلصين في خدمته يقيمونها في قبورهم ، ومنهم من كان يشرف أيضا بنفسه على صنعها . وأنا لنقرا في النصوص المصرية القديمة آن ساحورع آمر بقطع حجرين ونقلها إلى القصر الملكي لينقشا ويصورا تحت إشراف رئيس كهنة منف لقبر احد الإفراد . ونقرا أيضا أن من الهدايا الثمينة التي أمر تحوتمس الثالث بصنعها لأهدائها إلى معبد أمون رع في الكرنك أوان رسم تصميمها بنفسه. وكان الملوك يعتبرون أن من واجبهم المحافظة على الأشكال الفنية التقليدية ، ولذلك نرى أن منهم من ينتقل إلى مكتبة المعبد ليبحث في سجلاتها عما يجب أن تكون عليه تماثيل الآلهة ، ويأمر بتنفيذ صنعها على نحو ما وجد في الوثائق القديمة . مثل هؤلاء الملوك لابد أن عنوا كذلك بطراز ما انشاوا من معابد ومقابر ، وقد كانوا في الغالب الأعم يؤدون بأنفسهم شعائر تأسيس المعبد وافتتاحه .
وقد شجع كثير من الملوك المهندسين وأمدوهم بما كانوا يستطيعون توفيره من موارد وأدوات . وقد سجل نخبو في قبره في الجيزة انه أمضى ست سنوات في الإشراف على العمل في هرم ببى الأول ، وان الملك منحه ذهبا وخبزا وجعة بقدر كبير ، وكانت المكافأة بالذهب حلقا وسبائك غاية الجزاء لجمال هذا المعدن النفيس وبريقه الذي ينافس الشمس ، ولأنه خالد لا يصدا ولا يتلف . ومن الوثائق ما يسجل حديثا طويلا خاطب فيه رمسيس الثاني الفنانين والحجارين بما يدل على انه انشأ لهم إدارة كبيرة تقوم على توفير ما يحتاجون إليه من طعام وشراب وكساء وعطر . واخناتون مثل قائم على ما كان للملكة من اثر عظيم ، فقد شيد عاصمة جديدة بمعابدها وقصورها وبيوتها ومقابرها في سنين معدودات . ولا بد أن كانت له مطالبه وتوجيهاته الخاصة في طراز قصوره ومعابد معبوده الجديد .
وكما أن الملوك من أصلح ما تهدم من مباني أسلافه ، فقد كان من الأمراء وعظماء الأفراد من عمل أيضا على ترميم آثار آبائه وأجداده . ويعتبر خعمواس بن رمسيس الثاني من أقدم حماة الآثار القديمة ، فقد أصلح مقبرة شبسسكاف وهرم ساحورع ومعبد الشمس للملك نيوسررع وهرم اوناس.
والناس على غرار ملوكهم ، فقد كان إفراد الأسرة المالكة اقدر من غيرهم على محاكاة المباني الملكية ، ثم لا يلبث كبار رجال الدولة أن يتبعوهم . ولا ريب فيما كان للمهندسين المصرين ، وخاصة النابهين منهم ، من اثر أيضا فيما خططوا من منشآت وما أقاموا من مباني من حيث طرازها ودقة بنائها وإحكامه . وكانوا من أحسن الناس تنظيما للعمل والأيدي العاملة ، وقد وصفت طريقتهم في البناء بأنها ، بالنسبة للأدوات التي كانت لديهم ، كانت أحسن طريقة وأكثرها اقتصادا . وتكفي الإشارة إلى وظيفة "الشرف على جميع الأعمال الملكية" وهي مباني الملك ومنشآته المعمارية في الدولة القديمة ، ووظيفة "المشرف على جميع الأعمال في الكرنك " في الدولة الحديثة كانتا من أسمى وظائف الدولة ، وقد حفظ التاريخ أسماء كثيرين ممن شغلوهما ،ومنهم من كانوا أيضا وزراء ، وفي الإمكان في بعض الحالات وان تكن قليلة جدا التعرف على ما انشاوا من أعمال .
وأقدمهم جميعا امحواتب ، أول مهندس عظيم في العالم ، ومن ألقابه يتضح انه كان كبير كهنة عين شمس ، وما من شك في انه كان له اثر كبيير في مباني زوسر ، وانه مهد الطريق لغيره من البنائين الذين اقاموا مجد الدولة القديمة بفضل جهودهم المتواصلة.
وقد عرف المصريون فضله في كافة عصورهم ، فاعتبروه في الدولة الوسطى من الحكماء ، وفي الدولة الحديثة حاميا للكتاب ، ثم ألهوه في العصر الصاوي وحسبوه ابنا للإله بتاح ، ونسب إليه مانتو ، الكاهن المصري الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد ، اختراع البناء بالحجر النحيت . على أننا نعلم انه لم يكن أول من نحت الحجر للبناء ، إلا انه مع ذلك أول من بنى به بناء ضخما في مطلع الدولة القديمة ، ابتدع فيه من الأساليب الفنية ما يدين له فن البناء في مصر بالشىء الكثير .
ومنهم حميونو ابن آخى الملك خوفو ، الذي يظن انه اشرف على بناء الهرم الأكبر ، وسنوسرت عنخ من عهد الملك سنسوسرت الأول ، وانينى من عهد التحامسة ، وهو الذي حفر قبر تحو تمس الأول ، وسننموت ، حظي الملكة حاتشبسوت، الذي شيد معبدها الجنازي ، والذي وصف نفسه بأنه أعظم العظماء في كافة البلاد ، وانه ما من شيء منذ بدء الزمن لا يعلمه . وكان منموزى احد مهندسي الملك تحوتمس الثالث ، ومن نقوشه على تمثاله نعلم انه قام بالعمل فيما يقل عن عشرين معبدا في الصعيد وفي الوجه البحري مما يدل على مدى نشاط المهندسين المصريين إذ ذاك . وفي عهد الملك امنحوتب الثالث كان المهندس امنحوتب بن حابو ، الذي عاش نحو ثمانين عاما ، ابرز الأشخاص واحظاهم لدى ملكيه. وقد افتخر في نقوشه على احد تماثيله بان الملك عينيه مشرفا على جميع الإعمال وانه لم يقلد عملا تم من قبل ، وانه كان يعمل حسب رغبته. وكافأه الملك بأن سمح له باقامة معبد له على طراز المعابد الملكية غير بعيد من معبده الجنازى في غربي طيبة ، ولا بد انه كانت تؤدى له طقوس تشبه ما كان يؤدى للملوك ، وهو أمر فريد فيما نعلم . وقد عاشت ذكراه قرونا عديدة ، وكان يعد من الحكماء ، وكانت الأقوال المأثورة عنه شائعة في العهد البطلمي ، ثم ما لبث أن رفعه المصريون إلى مصاف الآلهة.
اجل لم يكن للبناء المصري في الأحيان حرية كبيرة في أن يستقل بشعوره ووجدانه وتفكيره في ابتداع طرز معمارية جديدة تختلف كثيرا عما فرضته التقاليد واقتضته العقائد الدينية والجنازية ، وأضفى عليه الزمن قداسة وجلالا ، ذلك لأنه كان على أوثق صلة بالبيئة المصرية وما يسودها من تقاليد وعقائد . فلم يجد ما يدعو إلى أن يغير كثيرا فيما تواترت به الأجيال وحفظته الوثائق وارتضاه المجتمع . ومع ذلك فقد كان للمهندسين المصريين أثرهم في حدود العقائد والتقاليد السائدة فيما اشرفوا على بنائه ، وإلا لما اختلفت التفاصيل المعمارية وبعض طرز البناء . ويؤيد ذلك انه ليس من المعابد ما يشبه معبدا آخر تماما . وقد كانوا يتمتعون بمركز ممتاز في المجتمع المصري ،حتى أن منهم من كان اكبر كاهن في البلد ، ومنهم من كان من الأسرة المالكة ، ومنهم من كان صديق فرعون ومستشاره ، ومنهم من كان أقوى شخصية في الدولة بعد الملك وكان المصريون يجلونهم ويعتبرونهم مهبط الحكمة.
ومع ذلك كله فماذا عسى أن تفيد الظروف السياسية والاقتصادية وهمة الملوك ومهارة المهندسين إذا لم يستجيب الشعب لمطالب الوقت ،ولم ينشط عن رغبة ويقين واستعداد لإقامة أضخم المنشات بقطع أحجارها الضخمة ونقلها من محاجرها مسافات بعيدة في البر والماء أو حفرها في الجبل في ظروف قاسية صعبة ، لقد كان المصريون شعبا نشيطا ، لا تؤودهم الصعاب ولا تهبظهم المهام العسيرة ، وكانوا ذوي جلد وصبر وقوة ملاحظة ، وما من ريب في أنهم أفادوا من التجارب خبرة وحنكة كبيرة . وقد علمتهم ظروف الحياة منذ أن سكنوا وادي النيل التعاون فيما بينهم على استصلاح الأرض وحفر القنوات والذود عن أرضهم وما أثمروا من خير ، حتى إن مصر لتدين لهم بقدر ما تدين للنيل العظيم . وقد كانوا ولا يزالون في كفاح مع الصحراء ، يقتطعون منها جزءا بعد جزء يستصلحونه للزراعة والانتفاع فيه بمياه الفيضان ، وكانوا يعتقدون في قداسة ملوكهم وإلوهيتهم فقاموا بالمعجز من الإعمال ، ولا تزال تبهرنا قدرتهم على نقل الأثقال ، ومنها ما لا يقل وزنه عن ألف طن على بساطة آلاتهم وأدواتهم . وكانوا اشد الناس استمساكا بعاداتهم واعتزازا بتقاليدهم ، طبعتهم على ذلك طبيعة بلادهم المستقرة ، وألقى به في وعيهم ما أفادوه من سبق في مضمار الحضارة والتقدم ، وما شعروا به من تفوق وحسن استعداد . لذلك كانت عمائرهم ذات طابع مصري صميم حتى في العصور إلى اتسعت فيها أملاك مصر في الخارج ، والتي اشتد فيها اتصالهم بغيرهم من الأمم المجاورة .
وكانوا إلى جانب ذلك كله ذوى أحاسيس فنية راقية وعلى صلة وثيقة بطبيعة بلادهم ، يقدسون مظاهرها الطبيعية ، ويتغنون بها في أغانيهم وأناشيدهم . وقد وجد ذلك سبيله إلى منشاتهم ، فكانوا منذ أقدم ازمنتهم يزينون دعائم أكواخهم بالزهور والسعف مما كان أصلا للأساطين النباتية كما أسلفنا ، وكانوا يتوجون الجو اسق والظلات بأكاليل اللوطس والبردى ويعلقونها على الجدران ، وقد وجد ذلك سبيله إلى زخرفة البناء . وعلى جدران البيوت والمقابر وارض القصور صوروا الخمائل تزخر بصنوف الطير ، ومسايل الماء ينمو فيها النبات وتسبح فيها الأسماك ، ووديان الصحراء تضطرب بما فيها من وحش ضار وحيوانات غير ضارية . ومنذ الدولة القديمة على الأقل لم يكن يفوت ذوى اليسار أن ينشئوا الحدائق الغناء في بيوتهم ، وفيها البحيرات وأحواض الزهور وأشجار الفاكهة . وكان للمعابد من ذلك حظ وافر ، بل منها ما بعثت حاتشبسوت من اجله بعثة خاصة لتجلب له أشجار البخور من بلاد بنت . ومنها ما جلب إليه تحوتمس الثالث الأشجار والنباتات والطير والحيوان من غربي آسيا . ومن القبور ما حرص أصحابه على أن تكون في رحابه بركة وحديقة تأنس بها روحه في قبره .
وهكذا كان من العوامل المختلفة ما اثر في العمارة المصرية ، وأدى إلى أن يكون لها طابع عام تتميز به عن غيرها . وفي حدود هذا الطابع أبدعت ظروف وملابسات طرزا معينة ، لم تكن يتسنى إبداعها في غيرها من الظروف . فطراز البناء في عهد زوسر طراز له صفاته وخصائصه ، جاء في أبانه تماما ، إذ يمثل مرحلة الانتقال إلى العمارة الحجرية ، أسهمت في إبداعه مراحل التقدم السابقة ، ووفرة الحجر الجيري في مصر ، واستثمار مناجم النحاس في صناعتة الأدوات والآلات على نطاق واسع ، كما أسهمت فيه الظروف الاقتصادية التي لابسته ، والأفكار والعقائد السائدة ، وشخصية الملك زوسر ومهندسه النابغة ومعاونوه الأكفاء الذين قاموا به . وكذلك كان طراز البناء في الأسرة الرابعة ، فقد جاء في وقته وظروفه ، ولم يكن له أن يسبق طراز عمارة زوسر إذا قدرنا جميع الظروف والعوامل . ومن الطبيعي إذا تغيرت ظروف هذا الطراز الفني أن يظهر مكانه طراز جديد يوائم المناسبات والظروف الجديدة ، وهو طراز الأسرتين الخامسة والسادسة ، الذي يمت بنسب إلى طراز زوسر . وعلى هذا النحو كان لكل من الدولتين الوسطى والحديثة طرازها الذي يتسق وظروفها وأحوالها ، بل لقد كان لكل زمن من أزمنة الدولة الحديثة طرازه الذي هيأته ظروفه وأسبابه . 
منقول

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق