السبت، 12 نوفمبر 2016

متابعة للفنان النحات المصري جمال السجيني

حمل منحوتاته ذات يوم وألقاها في النيل
إعادة اكتشاف جمال السجيني
المصدر : (القاهرة - محمد الروبي:)
ربما لا يعرف كثيرون أن الفنان المصري الراحل، جمال السجيني، حمل في يوم ما من صيف 1969 بعضاً من منحوتاته وألقى بها في النيل، نعم هذا ما فعله فنان لا تنقصه الشهرة حتى يلجأ إلى هذا الفعل الخارق، ليلفت إليه الأنظار، فالسجيني حقق من الشهرة العربية والعالمية ما يكفيه، لكنه فعلها، ألقى منحوتاته في النيل في لحظة يأس بعد أن تكدس منزله ومعمله بمنحوتات ولوحات ومطروقات تكفي أن تزين متحفا خاصا، وهو ما لم تلتفت إليه الدولة، فأراد بفعلته هذه أن يشد انتباهها إلى خطر لم تقدره وما زالت.
بعد ثماني سنوات من هذه الواقعة العبثية، وبالتحديد في 22 نوفمبر 1977 توفي جمال السجيني في إسبانيا، من جراء أزمة قلبية دهمته قبلها بيومين عندما شاهد على شاشات التلفزيون الرئيس السادات يزور القدس، فلم يتحمل قلبه أن يرى رئيس مصر يزور كيان المغتصب، بل ويصافح أعداءه بود .
رحل السجيني وبقيت أعماله حبيسة المعمل والمنزل، ومن هنا تحديدا تأتي أهمية المعرض الذي تقيمه قاعة الزمالك للفن بقيادة السيدة ناهدة الخوري، حيث اختارت بمساعدة ابنه مجد السجيني تسعة أعمال لم يسبق عرضها، لتعيد صبها وعرضها بقاعة أعلنت منذ بداياتها أنها لن تكون إلا لكبار الفنانين .
في البدء كان النهر
فور دخولك القاعة سترحب بك قطعة من النحت البارز معلقة على الحائط المواجه، لتجبرك على الوقوف أمامها إجلالا، إنه النيل، جسد إنساني بوجه حكيم عجوز يتجه شمالا، بينما إحدى ساقيه يداعبها تمساح مستكين تلهو فوقه أهرامات ثلاثة وأشرعة ثلاثة تحيطها ذراعه القوية المفرودة بحنان جد يحمي حضارة عنوانها الإنسان .
الوجه يفيض سكينة، والرأس يزينه تاج يقرب صاحبها من مينا موحد القطرين، بينما ذقنه شلال من ماء ينساب على يده اليسرى، تمرح على كفها سمكات الخير، إنه النيل معشوق السجيني الأول يذكرك بحادثته المأساوية، ويضيف على مقولة هيرودوت (مصر هبة النيل) لتصبح (مصر هبة النيل . . والإنسان) .
وحين تسترشد بالكتاب المطبوع الذي كتبه الفنان الكبير وأستاذ الفنون أحمد نوار، ستعرف أن العمل الأصلي نفذ من خامة الحجر الصناعي في عام ،1958 لكنهم هنا (في قاعة الزمالك) اجتهدوا في صبه من خامة البرونز، بل سيكشف لك نوار بخبرة الأستاذ كيف نجح السجيني في تحقيق أبعاد وعمق داخل المسطح ببراعة واتزان كامل بين القدرة على إظهار نسب التشريح للجسد البشري والحيوان .
وفي القلب . . أم كلثوم
في قلب القاعة ستراها تقف منتصبة القامة تكاد تسمعها تشدو برائعتها (أنا تاج الشرق) . جسدها البرونزي مصنوع من أهرامات مختلفة الأحجام، ترتكز كل منها على الأخرى في صعود شامخ، ووجهها يزين القمة بملامحه المعروفة، يدها اليمنى تمسك منديلها الشهير، بينما اليسرى تنساب بجوارها وتنبئ أصابعها المفرودة بلحظة تجلٍ موسيقية، بل سيزداد إحساسك بالتمثال حين تقرأ كلمات أحمد نوار كتلة ناطقة بالجمال وعبقرية إحساس فنان وعمق تعبيري فذ، قرر السجيني أن ينحت تمثاله برؤية البناء التراكمي من خلال عناصر متكررة توحي بإيقاع موسيقي، أمام هذا التمثال ستقف كثيرا، وستعود من جولتك إليه لتكتشف فيه جديدا كان فاتك في مراتك السابقة، إنه تمثال يتحدى الزمن، ويكسر التقليدي، أجمل ما فيه أنه يصف أم كلثوم وزمنها بجملة نحتية بليغة .
بورسعيد . . . المقاومة
بورسعيد . .عنوان آخر للعبقرية، تمثال عمودي صاغه السجيني مستوحيا مسلة المصري القديم، يسطر عليها (حكاية شعب) رفض الاستسلام واختار المقاومة سبيلا .
التمثال ثلاثي الأبعاد، تدور حوله لتقرأ ملحمة صمود، تبدأ بخاتمتها حيث جسد الإنسان المصري بوجه الزعيم جمال عبد الناصر، يرفع يديه يحمي الوطن من شلالات الهابطين بالمظلات على أرضه، إحدى يديه تمسك مسدسا يوجهه نحو الأعلى، والأخرى كفها مضمومة في قبضة تعكس حماس وغضب الرجل، بينما صرخة فمه المفتوح تنادي (حي على الكفاح) .
في صدر الجسد قلب محفور على هيئة نسر، وفي قلب القلب كتب بالنحت البارز بورسعيد عنوان الملحمة التي ستقرأ تفاصيلها في الخلف .
الجدار الخلفي منحوت نحتا بارزا، ومقسم إلى ثلاثة أقسام طولية، الأول يصور الإنسان المصري المسالم بوجه النسر، يجلس القرفصاء يبني سلما نحو شمس المجد، ومحاطا بغصن زيتون، الثاني عصابة من وحوش أسطورية من بينها ثعبان يصنع بجسده نجمة صهيونية، ويحاول التهام خير الأرض والنيل، أما الثالث فجنود يهبطون بالمظلات، لكنهم أقرب إلى المشنوقين بحبال مظلاتهم التي قطعتها عين حورس، أما الثالث فهو الإنسان المصري نسر يفرد يديه ليحمي بها بيوتا ونخيلا ونيلا من هجوم المظليين، ولا ينسى السجيني أن يطبع على جلبابه شعار الوحدة (هلال يعانق صليبا)، وهاهو أحمد نوار يصف التمثال: شاهد تاريخي ووثيقة دامغة في وجه أعداء مصر، يذكرنا برائعة بابلو بيكاسو(الجيرنيكا) التي مازالت تدين العدوان على قرية الجيرنيكا الإسبانية .
امرأة . . وامرأة
للمرأة مكانة خاصة عند السجيني، يراها أصل الحياة وبهجتها، وهاهو يجسد القرية المصرية امرأة تفيض بالأنوثة في تمثاله المعنون (القرية) . فالقرية عطاء والمرأة عطاء، القرية جمال والمرأة جمال، المرأة حنان واحتواء، وكذلك القرية المصرية كما يشعر بها الفنان، لذلك صاغ تمثاله عن القرية جسداً أنثوياً ينضح بالحنان والانسياب والنعومة، ذراعاها مرفوعتان تشتبكان عند القمة لتزيدا جسدها بهاء .
وفي مزج بين العمارة الإسلامية والحضارة المصرية القديمة يصنع السجيني عند ملتقى الذراعين قبة يعلوها هلال، لتكون القباب في هذا التمثال (تجويفا أو بناء) عنصراً أساسياً من عناصر تكوينه، تصنع نوافذ مفتوحة في جسد المرأة تطل منها على سلالم بيوت تصعد نحو التطور .
في الخلف ستشعر أكثر بأنوثة المرأة الجالسة بكبرياء، إنها مصر الأم الأنثى رمز الخصوبة مانحة الحب والخير . وإن كانت تلك هي المرأة القرية كما رآها السجيني، فهاهو يبدع تجليا آخر من تجليات المرأة تمثال الأمومة أفقي البناء، يشع نعومة وانسيابية لا تملك أمامها إلا الوقوف في صمت يفرضه عليك جلال نومة امرأة في حضن صغيرها، يندمج جسداهما معا ليصنعا لحنا مصاغا من البرونز، وتكاد تسمع دقات قلبيهما إيقاعا يغلف (حدوتة) ما قبل النوم .
جولة واحدة لا تكفي
نعم جولة واحدة لا تكفي، فمنحوتات السجيني لا تمنحك أسرارها دفعة واحدة، إنها تستدرجك ببطء وتظل تغويك بالمزيد والمزيد، فتظل تدور حولها واحدة بعد الأخرى، حتى تكتشف أنك أصبحت غيرك الذي دخل القاعة منذ قليل، فشكرا واجبا للسيدة ناهدة الخوري صاحبة هذه المغامرة في ذلك التوقيت الذي يهددنا فيه الظلاميون بهدم منحوتات الأجداد، أهراما ومعابد .
************
منقول 
المكتب الفني الهندسي
م/ أسامة محمود خليل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق